في مثل هذه الأيام من كل عام ينتابه نوع من الحزن يتحول إلي عذاب شخصي يلازمه ليل نهار.. ربما كان شعوراً داخلياً مرتبطا بما يحدث في الطبيعة من تغيرات.. حيث تزداد السحب كثافة ويخبو وهج الشمس وتبدو الأشعة كأنها مغموسة في نهر الدموع .. ربما أيضا لأنه صار وحيدا يفتش عن شيء ما يؤنس وحشة أيامه ويدفيء برد لياليه.
قطع صمته رنين التليفون المتصل.. امتدت يده الشاحبة التي برزت عروقها لتسكت الرنين وأمسكت عود ثقاب وأشعلت شمعة بجواره.
في ضوء الشمعة المرتعش سالت دموعه وعندما رفع رأسه رآها أمامه.. تعلقت عيناه اللتان أرهقهما الحزن بملامحها.. إنه لا يذكر أن حنانا رآه مرسوما علي وجهها مثلما أحس به في هذه اللحظة حتي أنها لم تتركه الابعد أن تأكدت أن الغطاء قد احتواه تماماً وأغلقت النافذة بهدوء ثم اختفت بين ظلال الضوء ودخان الشمعة.
عادت إليه ذكرياته وشعر برغبة جارفة في أن يناجي طيفها وبأن هناك فيضانا في وجدانه يريد أن يسكبه في جسدها فأغمض عينيه ومد ذراعيه يعانقها ويحتضنها لكنه لم يجدها فمنذ رحلت ينام وحيدا.. فراشه بارد ووسادته خالية.
يتمرد جسده عليه ويكتوي بنار الرغبة وآلامها المبرحة.. يدفن رغبته في صدره ويبكيها بحرقة.. يبكي المرأة التي عاشت لحظات حياتها كلها من أجل الذين يعيشون معها ودفعت كل خلجة في نفسها لتروي عطشهم النفسي والعاطفي بروحانياتها النقية الطاهرة.
فلم تكن زوجته.. كانت الحبيبة والعشيقة والصديقة والأم التي تهدهد جراحه وتلهم قلبه الطمأنينة والدعة فيعبر آلامه ويمسك حلمه بين أصابعه.. وكان واثقا من براءة نفسه من أية جريمة يمكن للقدر أن يحاكمه بها.
ولم يكن مخطئا يومها حين إطمأن قلبه فلم يخطر له الفراق علي بال.. حتي استيقظ يوما علي صوت الموت يهز أعماقه وأركان البيت .. ينادي من كانت ملكة متوجه علي عرشه فيذعن الجسد وتلبي الروح النداء تاركة إياة وحيدا مصلوبا عاجزا أمام أسرار الموت.
يقترب من النافذة.. تصافح عيناه ضوء القمر المتسلل عبر الستائر المخملية.. في مثل هذه الليلة المقمرة رآها وحدث الميل المتبادل بينه وبينها.. ثم نما مع الأيام والزيارات المتبادلة بين الأسرتين حتي صار حبا وحلما ليس بعيد المنال.
كانت تنتظره أسفل شجرة الجميزة العجوز عند حافة النهر.. يتحدثان بهمس العيون والابتسامات.. وعندما تنطفيء الشمس كان يتسلل وراءها في غبشة الليل إلي داخل خمائل الياسمين واللبلاب ويحاول تقبيلها.. فتجري منه إلي الحقول والجداول والطرقات مودعة إياه بثغر باسم وعينين حالمتين.
وفي مثل هذه الليلة المقمرة تحول بيت القرية إلي شعلة مزدانة بالأنوار الكهربية الملونة ووضع فيه مكبر للصوت تلعلع منه الزغاريد والموسيقي والأغاني .. وجاء مأذون القرية الذي عقد القران لتدق الدفوف معلنة زفاف العروسين.
كان البيت عالمهما الخاص .. ملجأ العشق وتناجي الأشواق ومناجاة الطفل الوليد.. يلاعبانه والسماء فوقهما بطيورها ونجومها ويغمرانه بالحب والحنان حتي كبر وصار رجلا أنجب لهما ثلاثة أحفاد.
وكانت تحلم ببيت واسع تحيطه حديقة غناء يضمهما معا وابنهما وزوجته والصغار.. وعندما تحقق الحلم رحلت لتسكن مقبرة في مدينة الحقيقة والصمت.
لايزال يذكر لحظة الوداع.. علي باب المقابر يقف الأطفال الفقراء الحفاة يطلبون الرحمة والصدقات بينما يهرول المقرئون لتلاوة القرآن الذي لايحفظونه.. الرجال وضعوا النعش علي الأرض ووقف المشيعون حول القبر تظلهم نباتات اللبلاب والصبار والريحان المتناثرة هنا وهناك.. القبر فاغرا فاه يتهيأ لاستقبال الميت.. ويُحمل الجثمان ليودع القبر.. وبعد أن يسد القبر تسوي الأرض وينادي السقا علي الماء ويرش التربي الماء ويرتل المقرئون وتتمايل الرءوس والأجساد ويتوحد ايقاع الحركة ويتناثر الترتيل في غير نظام مثلما ينثر الأهل الدموع والزهور والدعوات.
انتهت مراسم الدفن وانفض سرادق العزاء وعاد وحيدا يبحث هن الشيءالضائع في عالم يغمره القسوه وتحكمه قوانين القوة والسلطة والشهوة والمال.. عالم فقد إيمانه بالله مصدر الحياة والموت مثلما فقد موهبة التسامح والحب فراح الناس يتهافتون علي مباهج الدنيا الزائلة بينما يلوح لهم الغيب بأكفان الموت.
ليلتها لم يغمض له جفن.. في عينيه ترقد المجاديل التي تسد المقبرة حيث اختفت حبيبته وغاب جسدها إلي الأبد بين قبور تتناثر أسفل سفح الجبل.
ياالهي.. كيف يتحول الإنسان إلي تراب وتبقي القبور رافعة أيديها تحت شمس النهار وفي ظلمة الليل فتبدو كأشباح ساكنة تحرس من ماتوا وتنتظر من تبقوا علي قيد الحياة واذا كان القبر مسكن الجسد فأين تذهب الروح.. وهل تعود بعد الحساب إلي الجسد.. وماذا يصدق من حكايات تروي عما يحدث في القبر؟!
يقولون إن روح الميت تحوم حول جسده فهي حية فاعلة لا يتوقف دورها بموت صاحبها وإنها حتما تعود إلي الجسد في قبره مثلما كان يعتقد المصريون القدامي.. وفي رواية أخري إن الملائكة يسألون عن الدين والأب والرب وويل للسان الذي يتعثر في الجواب عن الإسلام وإبراهيم الخليل والله رب العالمين.. بينما كانت جدته تعتقد أن الموتي يخرجون من قبورهم بعد غروب الشمس ويتزاورون ويعقدون جلسات ويحكون حكايات مثلما يفعل الأحياء.. وأن أرواحهم تحوم حول البيوت التي كانت تسكنها أيام الجمعة بل تدخلها آمنة دون أن يشعر بها أحد.. تسأل عن أحبائها وأخبارهم وأحوالهم.
وهو يصدق ما روته له جدته في حياتها.. فقد غابت حبيبته لكنه يتحدث معها ويسمع صوتها ترد عليه.. يشكو إليها من هذا الذي فعله به احساسه بالوحدة ووجع البعاد.. فتحكي له عن مباهج عشق الروح وعذابات غربة الجسد.. وكأنما تحذره من هذا الضعف الإنساني الأبله الذي يدفع الرجل للزواج بامرأة يعتقد أنها سوف تخفف احساسه بالوحدة.. ثم يكتشف أنه أصبح أكثر احساسا بالحزن والغربة والوحدة.. فهي مجرد مديرة بيت تطهو طعامه وتغسل ثيابه وتعطيه الدواء في موعده مقابل ما تحصده من ثمار تعبه وكفاحه مع رفيقة عمره الراحلة.
الزوجة البديلة وهم وخرافة.. تماما مثل الأم البديلة تظل دوما عاجزة عن القيام بدور الأم الحقيقية.. ومثلما الطفل الرضيع لا يستطيع الاستغناء عن صدر أمه.. كذلك الرجل الذي أدمن رحيق زوجة يحبها لا يحتمل أنفاس امرأة أخري تحتل فراشه.. فيعطيها ظهره كلما عاد الليل وينام في حضن الحبيبة التي غابت بالجسد وطيفها لم يفارق خياله لحظة واحدة.
منقول
الخميس 27 نوفمبر 2014 - 17:43 من طرف hmd22200
» اقوال وحكم ونكت طريفة
الخميس 27 نوفمبر 2014 - 17:40 من طرف hmd22200
» بنت عمرها 16 سنة وينام معها خالها
الخميس 27 نوفمبر 2014 - 17:38 من طرف hmd22200
» الماء البارد يزيد بريق وجهك نضارة وجمالا
الخميس 27 نوفمبر 2014 - 17:35 من طرف hmd22200
» اسمر يا مدلل
الأربعاء 30 نوفمبر 2011 - 11:35 من طرف issam
» اخر كلام يونس حسن
الجمعة 11 نوفمبر 2011 - 1:11 من طرف Rm130
» حفــــل سومـــر حيـــدر وبســـام البيطـــار راس السنـــة ٢٠١١
الخميس 27 أكتوبر 2011 - 4:26 من طرف gamalo
» من زيارة الرئيس الأسد والسيدة عقيلته إلى باريس
الثلاثاء 19 يوليو 2011 - 17:38 من طرف عاشقة سوريا
» أكلة شهيرة في كولومبيا
الأحد 10 يوليو 2011 - 2:09 من طرف hmd22200